هل سمعتم مرة أن يكون الماء معبرًا للتاريخ؟ المفترض أن معبر التاريخ هو الوقت والزمن، ولكن الماء، هذه المرة، هو معبر التاريخ.
والسبب في ذلك هو أننا لا نتحدث عن تاريخ عادي، بل نتحدث عن أفضل تاريخ في البشرية كلها وهو التاريخ المصري.
إذن هل بالفعل كانت قناة السويس معبرًا للتاريخ المصري؟ وكيف حدث هذا؟
هناك العديد من القنوات المائية التي حُفرت منذ الحضارة المصرية القديمة، ومرورًا بالحضارة الإسلامية، إلى أن حُفرت قناة السويس عام 1869.
تلك القنوات تحمل العديد من الإدعاءات والتكهنات على أنها هي ذاتها قناة السويس.
أول هذه القنوات قناة سيزوستريس التي تربط بين البحر الأحمر ونهر النيل، تبدأ هذه القناة من الفرع البوباسطي للنيل شرقي الدلتا، وتمتد خلال وادي الطميلات حتى تصل إلى البحيرات المُرة، ولكن اختلف العلماء على تحديد زمن حفر هذه القناة.
فمنهم من قال أنها حُفرت في عهد الملك سنوسرت الأول (1971-1936 ق.م) أو الثالث (1878-1843 ق.م)، ومنهم من قال أنها حُفرت في عهد الملك رمسيس الثاني (1304-1237 ق.م)، ومنهم من قال أن اسم سيزوستريس كان اسمًا مجازيًا، وأن المصريين لم يهتموا بهذا المشروع قبل عهد الملك نخاو الثاني (610-595 ق.م)، ومنهم من قال أن سيزوستريس هو أحد الأبطال المصريين الذين قاوموا الفرس، وهو ذاته من حفر هذه القناة في القرن الأول قبل الميلاد.
كل هذه الاحتمالات عن تاريخ حفر قناة سيزوستريس تؤكد أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون حماية نهر النيل والبحرين واجبًا مقدسًا، فقد كان المصري القديم يحرص على فتح أبواب التجارة من خلال نهر النيل والبحرين منذ عصر الدولة القديمة، حيث كان الملوك يصورون حملاتهم البحرية مثل رحلات ساحورع إلى بلاد بونت التي تقع على سواحل البحر الأحمر، وعلى الرغم من كل هذه الأدلة والبراهين، فإن قناة سيزوستريس لا علاقة لها بقناة السويس؛ وذلك لأن قناة السويس تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر وليس البحر الأحمر ونهر النيل.
كما أن النصوص المصرية القديمة في عهد الملكة حتشبسوت التي أقامت علاقات تجارية مع بلاد بونت تشير إلى “أن البضائع كانت تُنقل من نهر النيل عبر الصحراء ومن ثم إلى البحر الأحمر”، والشيء ذاته تؤكده بردية “هاريس” في عهد الملك رمسيس الثاني.
ثاني هذه القنوات هو خليج أمير المؤمنين أو الخليج المصري الذي كان سبب حفره هو القحط الشديد الذي وقع في بلاد الحجاز عام 18 هجريًا في خلافة عمر بن الخطاب، والذي سُميّ “بعام الرمادة”، وأيضًا، يُرجح أنه هو العام ذاته الذي وقع فيه “طاعون عمواس” في بلاد الشام الذي تسبب في موت الكثير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما اشتد الألم بالمسلمين في بلاد الحجاز، أرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى عمرو بن العاص والي مصر يطلب منه العون والإغاثة، وقد قال عمر بن الخطاب في هذه الرسالة “سلامٌ عليك، أما بعدُ فلعمري يا عمرو ما تُبالي إذا شبعتَ أنتَ ومن معك، أن أهلَكَ أنا ومن معي، فياغوثاه!، ثم يا غوثاه!”. فسارع عمرو بن العاص بالرد قائلًا “من عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين، أما بعد. فيا لبيك! ثم يا لبيك! قد بعثتُ لك بعيرٍ أولها عندك، وآخرها عندي، والسلام عليك”. وبعد أن انتهى القحط عام 23، أرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى عمرو بن العاص يطلب منه أن يحفر قناة؛ لتربط بين مصر والحجاز فقال له “يا عمرو، إن الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرةُ الخير والطعام، وقد أُلقيّ في رَوعي لما أحببتُ من الرفق بأهل الحرمين، والتوسعة عليهم، أن أحفر خليجًا من نيلها حتى يسير في البحر، فهو أيسرُ لَما نُريد من حمل الطعام إلى المدينة، ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ معه ما نُريد، فانطلق أنت وأصحابُك، فتشاوروا في ذلك”.
فلما تشاور عمرو مع أصحابه أثقلوا عليه الأمر وأخبروه أن هذا الخليج سيلحق الضرر بمصر، كما أخبروه أن يرسل إلى الخليفة يخبره بخطورة هذا الأمر على مصر، فلما فعل عمرو ذلك، غضب الخليفة غضبًا شديدًا وقال له “كم بينك وبين البحر؟”. فرد عليه عمرو وقال له “مسيرة ليلتين”، فقال الخليفة “ستحفر هذا الخليج ولو أنفقت عليه جميع مال مصر”، وهذا ما أكده ابن ظهيرة الذي قال “أن الخليج المعروف باسم خليج أمير المؤمنين حفره عمرو بن العاص بأمر من أمير المؤمنين عمر”؛ مما يؤكد أن عمرًا لم يكن يرغب بحفر هذا الخليج، ثم أخذ يجمع المال والعمالة؛ لحفر هذا الخليج.
لكنه لم يكن يعلم من أين يبدأ الحفر، فقال له أحد الأقباط “أرأيت إن دللتك على مكان تجري فيه السفن حتى تنتهي إلى مكة والمدينة، أتضع عني الجزية، وعن أهل بيتي، قال عمرو: نعم”، وبالفعل بدأوا بالحفر وانتهوا منه بعد أكثر من ستة أشهر.
ومما سبق يتضح أن قناة السويس ليست معبرًا للتاريخ المصري كله، بل هي معبر لفترة محددة فقط، تلك الفترة بدأت منذ حفرها عام 1869 ولا تزال مستمرة إلى الآن، والسبب في ذلك هو أن قناة السويس تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط على عكس قناة سيزوستريس وخليج أمير المؤمنين اللذين يربطان بين نهر النيل والبحر الأحمر، ولكن هذا لا يعني أن هاتين القناتين لم يساهما في حفر قناة السويس، بل إنهما كانا البداية لإثبات تساوي مياه البحرين، وهما أيضًا كانا البداية لواحدة من أهم ثروات مصرنا الحبيبة ألا وهي قناة السويس.
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات2024.04.19الفتور عن الطاعة بعد رمضان
- مقالات2024.04.15استمرار القيام بعد رمضان
- مقالات2024.04.07شياطين الإنس
- مقالات2024.03.24وأنا مالي