عندما نتحدث عن قاهر الألوان، فإننا نتحدث عن رجل أمضى حياته كلها في سبيل عدم التفرقة بين الأبيض والأسود؛ لأن الله خلقهم جميعًا من طين وتراب ولم يفرق بينهم في أي شيء وقد صارع هذا الرجل الدنيا بأسرها؛ لتحقيق هدفه وتمكن من ذلك بالفعل فمن هو قاهر الألوان؟ وماذا فعل؟
إن قاهر الألوان هو “نيلسون روليهلاهلا مانديلا” الذي وُلد في الثامن عشر من يوليو عام 1918 في قرية مفيتزو بمقاطعة أوماتاتا بإقليم ترانسكاي في جنوب إفريقيا ولكنه كان يقيم في مدينة جوهانسبورغ في جنوب إفربقيا أيضًا، تزوج مانديلا ثلاث مرات: الأولى كانت عام 1944 من السيدة “إفلين نتوكو ماسي” وأنجب منها ابنتين وولدين ثم انفصلا عام 1957؛ بسبب الالتزامات النضالية والثورية لمانديلا والثانية كانت عام 1958 من السيدة “ويني ماديكيزيلا” وأنجب منها ابنتين ثم أُعتقل “مانديلا” بعد ذلك لمدة سبعة وعشرين عامًا في سجن جزيرة روبن؛ بسبب قانون الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لتصبح الجميلة “روبن” مجرد ذكريات في ذهن قاهر الألوان.
وبعد عامين فقط من الإفراج عنه أي في عام 1992، أعلن “مانديلا” الانفصال عن “ويني” قبل أن يطلقها رسميًا عام 1996؛ بسبب تورطها في فضائح سياسية وقضايا فساد واستغلال نفوذ وانخراطها في أعمال متطرفة أساءت إلى رمزيته والتزامه الوطني والنضالي الذي كان ينادي بالمساواة بين الزنوج والقوقازيين والثالثة كانت في يوليو عام 1998 من السيدة “غراسا ماشيل” أرملة “سامورا ماشيل” رئيس موزمبيق وحليف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
أسس الاحتلال الإنجليزي نظام حكمه في جنوب إفريقيا على نظام الفصل العنصري “الأبارتيد” الذي ينص على تفوق الجنس الأبيض وسموه على الجنس الأسود ذلك النظام تشكَّل اعتمادًا على أسطورة تدعي أن البشر خُلقوا وفق تصنيف هرمي يتربع الجنس الأبيض على قمته ثم يأتي بعده بقية البشر بكافة ألوانهم وأشكالهم وقد بدأ “مانديلا” نضاله ضد ذلك النظام محاميًا يدافع عن حقوق الزنوج من شعبه الذين كانوا يمثلون الأغلبية في البلاد، وقام أيضًا مع صديقه “تامبو” بفتح مكتب محاماة كان يعني الكثير للزنوج في جنوب إفريقيا فقد كان ذلك المكان هو الملاذ الآمن لهم الذي يجدون فيه آذانًا صاغية لهمومهم ويساعدهم في حل مشاكلهم.
وقد تأسس ذلك المكتب على مبدأ التكامل، فكانت مهمة “مانديلا” هي المرافعة والدفاع عن حقوق السود في المحاكم بأسلوبه الحماسي الجذاب بينما كانت مهمة “تامبو” هي الصبر والهدوء والتعاطف مع الناس؛ لأنه كان يقضي ساعات طويلة في المكتب للاستماع إليهم وترتيب أوراق شكواهم ثم يقدم إلى صديقه “مانديلا” ملفًا قويًا يستطيع من خلاله إثبات حقوق السود أثناء مرافعاته كما كان انتقال “مانديلا” لإقامة في مدينة جوهانسبوغ عام 1941 هو حجر الزاوية في نضاله ضد التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا؛ لأن هذه المدينة كانت معقلًا للتفرقة العنصرية بين البيض والسود فتمكن قاهر الألوان من رؤية مساوئها عن قرب والانخراط في الاحتجاجات والمقاطعات والمؤتمرات الوطنية المطالية بإنهاء العنصرية في جنوب إفريقيا.
ومن أبرز تلك المؤتمرات المؤتمر الوطني الإفريقي الذي أصبح “مانديلا” عضوًا فيه، وكل ذلك لم يوقف ما بدأه مع صديقه “تامبو” بالعمل في المحاماة من خلال مكتبيهما في مدينة جوهانسبورغ وفي سبتمبر عام 1955، قرر “مانديلا” زيارة مسقط رأسه ترانسكي، وقد كان الهدف من هذه الزيارة سياسيًا؛ لأن الحكومة البريطانية عزمت على تطبيق قانون “الأبارتيد” في المدينة مع إضافة إجراءات أخرى أكثر عنصرية إلى هذا القانون ومن هذه الإجراءات وضع زعماء ترانسكي تحت سيطرة الحكام البيض وتطويق السود في تجمعات عرقية محددة أي أن بريطانيا أرادت سجن السود داخل مساحة جغرافية ريفية صغيرة ومعزولة من البلاد والسبب في ذلك هو زيادة هجرة السود من الريف إلى المدن بحثًا عن عمل وقد رفض “البانغا” مجلس زعماء ترانسكي ذلك القانون في البداية عام 1952، ولكن الحكومة البريطانية أغرتهم بسلطات مالية وقضائية كبيرة وبالفعل، استجابوا للحكومة البريطانية ووافقوا على القانون عام 1955؛ مما أدى إلى انزعاج مانديلا بشكل كبير ولكنه سرعان ما تدارك غضبه، وواصل اتصلاته مع زعماء البانغا مثل ابن أخته ماتانزيما الذي كان بطلًا في جامعة فورت هير وأصبح الزعيم الأكبر لأراضي تيمبولاند الغربية، كما ذهب إلى مدينة بورت إليزابيث لملاقاة غوفان مبيكي الناشط الماركسي.
وقد واجه مانديلا الكثير من الصعوبات في بداية الأمر، حيث رفض زعماء البانغا الاستجابة له وكانت جنوب إفريقيا على حافة حرب أهلية، ولكنه تمكن في النهاية من توحيد صف الشعب الجنوب الإفريقي وشيد دولته الديموقراطية التي كان يحلم بها.
هذه الدولة تقوم على العدالة بين البيض والسود وفقًا لنظام قانوني ودستوري وأصبح “مانديلا” أول رئيس جمهورية من ذوي البشرة السمراء في العالم منذ عام 1994 حتى عام 1999، وتوفي في الخامس من ديسمبر عام 2013 وقد حصد قاهر الألوان العديد من الجوائز مثل جائزة جواهر لال نهرو عام 1979، وجائزة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان عام 1988، وجائزة سخاروف لحرية الفكر عام 1988، ونيشان الصداقة عام 1988، وجائزة لينين للسلام عام 1990، ووسام لينين عام 1990، والدكتوراة الفخرية من جامعة كمبلوتنسي بمدريد عام 1991، ونيشان خوسيه مارتي عام 1991، وجائزة فيليكس هوفويت-بواني للسلام عام 1991، وجائزة أميرة أشتوريس للتعاون الدولي عام 1992، والدكتوراة الفخرية من جامعة بكين عام 1992، والدكتوراة الفخرية من الجامعة الحرة في بروكسيل عام 1993، وجائزة فولبرايت عام 1993، وجائزة نوبل للسلام عام 1993، والوسام الأوليمبي الذهبي عام 1994، ونيشان الاستحقاق عام 1995، والطوق الأعظم لنيشان الأمير هنري عام 1995، ووسام فرسان الفيل عام 1996، وقلادة النيل العظمى عام 1997، ووسام سيرافيم عام 1997، ووسام الوردة البيضاء لفنلندا عام 1997، ووسام القديس أولاف عام 1998، ووسام إيزابيلا الكاثوليكية عام 1999، والدكتوراة الفخرية من جامعة لايدن عام 1999، ونيشان الأسد الذهبي لآل ناساو عام 1999، ووسام الأمير ياروسلاف الحكيم عام 1999، ووسام الحرية الرئاسي عام 1999، ووسام أستراليا عام 1999، وجائزة غاندي للسلام عام 2000، ووسام الأسد عام 2002، وجائزة الحريات الأربع عام 2002، ووسام القديس يوحنا عام 2004، ودكتور شرفي في معهد كارولينسكا عام 2005، وجائزة سفير الضمير المرموقة عام 2006، وميدالية موتا جوزيبي عام 2006، وجائزة أهيمسا عام 2006، وجائزة مو إبراهيم للإنجاز في القيادة الإفريقية عام 2007.
وقد أظهر قاهر الألوان دعمه لفلسطين وللقضية الفلسطينية منذ الوهلة الأولى، حيث كان صديقًا مقربًا للرئيس الفلسطيني السابق “ياسر عرفات” وكان دائمًا يقول له “إن الشعبين الفلسطيني والجنوب إفريقي يعانيان المصير ذاته” وقد اعترف “مانديلا” أن شعب جنوب إفريقيا تلقى الكثير من الدعم أثناء كفاحه ونضاله ضد العنصرية بين الزنوج والقوقازيين على عكس الشعب الفلسطيني كان ضحية المجتمع الدولي الصامت الذي فضَّل مصالحه مع اليهود في كل زمان ومكان. كما قال “مانديلا” عن فلسطين أيضًا “ومع ذلك، وبمرور السنوات، فإن عددًا قليلًا من الناس في العالم هم الذين لفت انتباههم احتلال فلسطين من القوات اليهودية، أو هم العرب الذين ما زالوا يدفعون ثمنًا باهظًا من دمار مجتمعاتهم، وتهجير غالبيتهم، ومن النظام القضائي البشع وهو يمثل نظام فصل عنصري شديد الوضوح يُمارس ضدهم داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة لقد كان الفلسطينيون الضحية الصامتة للظلم وغياب العدالة الجسيمين، العدالة التي جرى تغييبها بسرعة عن الأنظار من قبل جوقة منتصرة مثَّلتها إسرائيل خير تمثيل”.
وختامًا، سيظل “مانديلا” رمزًا للكفاح والنضال ضد العنصرية في جميع أنحاء العالم في كل زمان ومكان. والدليل على ذلك أقوال الشعوب والرؤساء والشخصيات البارزة عنه في المجتمعات كلها. فقد قال الفنان التشكيلي النمساوي “بيتر شولنج” عنه “إنه بطلي المفضل”، وقال البروفسير النمساوي “رودي” الجملة ذاتها. وقال عنه الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” “كان أكثر من رجل عادي: كان رمزًا للنضال من أجل العدالة، والمساواة، والكرامة في جنوب إفريقيا وفي العالم، كانت تضحياته جليلة إلى درجة أنه دفع الناس في كل مكان إلى فعل ما في وسعهم من أجل تقدم البشرية”.
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات2024.04.19الفتور عن الطاعة بعد رمضان
- مقالات2024.04.15استمرار القيام بعد رمضان
- مقالات2024.04.07شياطين الإنس
- مقالات2024.03.24وأنا مالي