دائمًا – وللأسف الشديد – نسمع الكثير من الناس وعلى رأسهم الفلسطنيون يقولون “غزة أرض العزة” ونسوا أن فلسطين كلها أرض العزة والكرامة والشهادة. فهي أرض الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الذي سيظل المسلمون يدافعون عنه ويفدونه بأرواحهم؛ حتى يحين ميعاد تحريره من أيدي اليهود كما سجل القرأن. فما هي أشهر الانتفاضات التي قامت ضد اليهود؟ ومتى قامت؟ وما هي أسبابها ونتائجها؟
إن الانتفاضة الأولى التي قامت ضد اليهود هي ثورة البراق عام 1929 ميلاديًا. وكان سبب هذه الثورة هو ادعاء اليهود ملكيتهم لحائط البراق؛ لأنه يوجد به ما تبقى من هيكل سليمان الذي دمره الرومان عام سبعين ميلاديًا. واستطاع اليهود أن ينتزعوا فرمانًا من الدولة العثمانية يبيح لهم الصلاة عند هذا الحائط شريطة عدم الإخلال بالوضع القائم واستفزاز مشاعر غيرهم من الطوائف التي تسكن المكان. وقد التزم اليهود بذالك إبان الحكم العثماني. ولكن عندما سقطت الدولة العثمانية، وتولت بريطانيا إدارة شؤون فلسطين، حافظت على القانون الذي وضعته الدولة العثمانية لهذه المنطقة. لكن اليهود لم يلتزموا بما كانوا يلتزمون به أثناء الدولة العثمانية، فقاموا في يوم الرابع والعشرين من سبتمبر عام 1929 بجلب معدات الاحتفال بيوم الغفران، ووضعوا ستارًا يفصل الرجال عن النساء، ونفخوا في الأبواق. وقابل كل هذه الانتهاكات صمت بريطاني كأنها توجه رسالة للعرب أن الالتزام بالقانون العثماني سيكون صوريًا وأن لليهود الحق في أن يفعلوا ما يشائون في هذه المنطقة. الأمر الذي أثار حفيظة المسلمين؛ مما أدى إلى اندلاع ثورة البراق في الأسبوع الأخير من أغسطس عام 1929 للدفاع عن ملكيتهم لحائط البراق. فهذا الحائط هو الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، وهو المكان الذي ركن إليه النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – البراق الذي حمله من مكة إلى القدس؛ كي يصعد إلى السموات العلى في رحلة الإسراء والمعراج. استشهد في هذه الثورة 116 مسلم وأُصيب 232 آخرين ، وقُتل 133 يهودي وأُصيب 339 آخرين، وانتشرت الثورة في جميع أنحاء فلسطين؛ مما أدى إلى تشكيل لجنة دولية برئاسة برئاسة وزير خارجية السويد الأسبق “أليل ولفغرن” وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري “تشارلز بارد” لتحديد حقوق المسلمين واليهود في حائط البراق. ولكن انحازت هذه اللجنة إلى اليهود؛ مما أدى إلى اشتعال الثورة من جديد. ولكن قابل الفلسطنيون الأحرار هذه المرة قمع الشرطة البريطانية من إعدام واعتقال وسجن، فقد امتلأت السجون بالكثير من النشطاء العرب، وأُعدم عشرون عربيًا.
إن الانتفاضة الثانية التي قامت ضد اليهود هي الثورة العربية الكبرى في فلسطين بين عامي 1936 و 1939 ضد الحكم البريطاني. وكانت أسباب هذه الثورة هي الاضطراب الاقتصادي الذي عانى منه الفلسطينيون في الريف؛ بسبب نزع ملكيتهم، وتراكم الديون عليهم، وتشجيع السياسة البريطانية إلى هجرة اليهود إلى فلسطين لشراء الأراضي بالإكراه. إضافة إلى اكتشاف كمية كبيرة من الأسلحة في ميناء يافا في أكتوبر عام 1935؛ مما أثار المخاوف لدى الفلسطينين أن بريطانيا تخطط لإقامة دولة لليهود في فلسطين على حسابهم. وانقسمت هذه الثورة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى من ربيع 1936 حتى يوليو عام 1937 وهي مرحلة اشتعال الثورة. وأسفرت اشتباكات هذه المرحلة عن مقتل يهوديين واستشهاد فلسطينيين. ونتيجة لاشتباكات هذه المرحلة، تشكلت اللجنة الوطنية للإضراب في نابلس، وتشكلت أيضًا اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني التي نسَّقت ودعمت الإضراب الوطني العام. وانطلقت المرحلة الثانية من الثورة من يوليو عام 1937 إلى خريف 1938. جنى النضال الفلسطيني ثمار الإضراب ضد اليهود والإنجليز في هذه المرحلة، حيث تمكن من السيطرة على الكثير من الأراضي مثل البلدة القديمة في القدس. ونتيجة لذالك، اتخذت بريطانيا اجراءات قاسية ضد الثورة العربية حيث أعلنت لا شرعية اللجنة العربية العليا والأحزاب السياسة الفلسطينية. وأيضًا، اعتقلت العديد من السياسيين الفلسطينيين ونفت عددًا من الشخصيات العامة. كما نشرت الدبابات والطائرات والمدفعية الثقيلة في جميع أنحاء فلسطين لقتل الثوار. وعلى الجانب المقابل استفاد اليهود من هذا الوضع لتطوير قدراتهم العسكرية بدعم بريطاني، حيث حصل أكثر من أربعة عشر ألفًا يهودي من “شرطة المستعمرات البريطانية” على الدعم والزي الرسمي والسلاح من الحكومة البريطانية. كما كانت منظمة “الهاغاناه” اليهودية تعمل خلف واجهتهم، إضاقة إلى الوحدات الليلية الخاصة المشَكَّلة من اليهود والببريطانيين التي كانت تقوم بعمليات خاصة ضد القرى الفلسطينية. أما عن المرحلة الثالثة، فقد انطلقت من خريف عام 1938 حتى صيف عام 1939. وفي هذه المرحلة، سعت برطانيا إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين فلسطين وإسرائل؛ فشكلت لجنة برئاسة “السير جون وودهيد” لتحقيق ذلك. ولكن اللجنة حذرتها من ذلك؛ فتراجعت بريطانيا عن هذا القرار. ولكنها استمرت في قتل وإعدام واعتقال الثوار، حيث كان عدد المعتقلين في عام 1939 ضعف عدد معتقلي 1938. وقد استشهد في سنوات الثورة الثلاث خمسة آلاف فلسطيني، وأصيب خمسة عشر ألفًا آخرين.
إن الانتفاضة الثالثة التي قامت ضد اليهود هي ثورة الحجارة في الثامن من ديسمبر عام 1987. اتسمت هذه الانتفاضة بالشمولية، والاستمرارية، والسرية التامة، وتوحيد الصف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. وتكمن أهمية هذه الانتفاضة في التمكن من تشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة، وتمهيد الأساس المتين لإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. كما تكمن أهمية هذه الانتفاضة في المشاركة، والترابط الاجتماعي وانعدام الطبقية، والشكل التنظيمي للانتفاضة، إضافة إلى المعتقلات التي بناها الاحتلال لقتل هوية الإنسان العربي الفلسطيني؛ فكانت حسرة عليهم. فقد أصبحت هذه المعتقلات الشرارة التي تنطلق منها الانتفاضات الفلسطينية. ويجب ألا ننسى دور الجامعات، والمخيمات في الانتفاضات الفلسطينية أيضًا. وقد كان السبب الرئيس لهذه الانتفاضة هو طرد الاحتلال الإسرائيلي والتوسع داخل الأراضي الفلسطينية؛ لإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وقد كانت أسلحة الفلسطينيين في هذه الانتفاضة تتمثل في الحجر، والالتحام الشعبي، والسكين، والزجاجات الحارقة، والحرائق، والمصيدة، وسلاح العوائق. وقد بدأت أحداث هذه الانتفاضة بدهس شاحنة إسرائيلية لمجموعة من العمال الفلسطينيين في مخيم جباليا شمال قطاع غزة على حاجز أريز؛ فهاجم الفلسطينيون الأهداف الإسرائيلية مستخدمين الحجارة، بينما يستخدم الكيان الإسرائيلي الأسلحة النارية والدبابات. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن استشهاد 1162 فلسطينيًا وإصابة تسعين ألف آخرين ناهيك عن الاعتقالات، وهدم المنازل، واقتلاع الأشجار. وعلى الجانب الإسرائيلي، فقد قُتل 160 إسرائيليًا فقط. كما أسفرت هذه الانتفاضة أيضًا عن توقيع وثيقة الاستقلال في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988 بعد الموافقة عليها بالإجماع من جميع قادة منظمة التحرير الفلسطينية. وتطالب هذه الوثيقة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفقًا لقرارات الأمم المتحدة عام 1947. وقد انتهت هذه الانتفاضة بتوقيع اتفاقية أوسلو للسلام في الخامس من مايو عام 1994.
إن الانتفاضة الرابعة التي قامت ضد اليهود هي هبة النفق التي تعَّرف أنها حلقة من حلقات النضال الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1996. وسميت بهذا الاسم؛ لأن الكيان الصهيوني أقدم على فتح نفق أسفل المسجد الأقصى فتصدت له جميع فئات الشعب الفلسطيني ببسالة كبيرة. وهذا النفق هو عبارة عن مبان قديمة مشيدة في عصور مختلفة مغطاة بالطمم، وأما خطورة حفر هذا النفق تكمن في أنها تحد سافر للشرعية الدولية؛ لأنها تصرف من طرف واحد في أرض محتلة. كما أن حفر هذا النفق سيؤدي إلى تصدع العديد من المباني مثل المدرسة العثمانية، ورباط الكر، والمدرسة الجوهرية. وأيضًا، إن حفر هذا النفق يؤكد السيادة الإسرائيلية على القدس، ويخرب العملية السلمية، وينتهك اتفاقية أوسلو التي لم تعط الفلسطينيون حقوقهم أصلًا، ويوسع دائرة حائط البراق. وفي يوم الأربعاء الموافق الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1996، أعلن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مواجهة العدوان الإسرائيلي؛ كي يمنعه من فتح بوابة هذا النفق. كما بعث عرفات برسائل إلى الرئيس الأمريكي كلينتون، والعاهل الأردني حسين، والرئيس التركي سليمان ديميريل؛ ليضعهم في صورة العدوان الجديد. وانطلقت المآذن في كل من القدس، وشارع الزهراء، وحي الواد، وباب الساهرة، وباب النفق الجديد، وشوارع القدس مثل شارع صلاح الدين، والسلطان سليمان، والزهراء، وأحياء البلدة القديمة، ورام الله، والخليل، وبيت لحم، وكفار داروم، ومفرق الشهداء “بالقرب من مستوطنة نتساريم”، وحاجز بيت حانون “ايرز”، وخانيونس، ورفح؛ للدعوة إلى المواجهة. وقد أسفرت هذه الانتفاضة عن استشهاد 63 شهيدًا وإصابة 1600 آخرين، وتوقيع بروتوكول إعادة الإنتشار في منطقة الخليل في السابع عشر من يناير 1997.
ويجب ألا نغفل عن انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 2000. تلك الانتفاضة التي استشهد فيها الطفل محمد الدُرة حين قتله جندي إسرائيلي وهو يحتمي بجوار أبيه. وقد كان سبب هذه الانتفاضة هو اقتحام شارون للمسجد الأقصى والاعتداء على المصلين.
وأيضًا، يجب ألا نغفل عن انتفاضة عام 2015، حينما استمرت انتهاكات إسرائيل واقتحامها للمسجد الأقصى والاعتداء على المصلين والمعتكفين.
وأيضًا، يجب ألا نغفل عن الانتهاكات، والقمع والقتل الذين تعرضوا له أهالي حي الشيخ جراح بالقدس بين عامي 2021 و 2022.
والآن، تشهد فلسطين انتفاضة كبيرة لم تشهدها من قبل. ولا تزال هذه الانتفاضة مستمرة حتى يومنا هذا. وقد استشهد إلى الآن 2329 شهيدًا من الفلسطينيين، وقُتل أكثر من 1700 إسرائيلي.
وختامَا، سيظل الشعب الفلسطيني يسطر الملاحم والتاريخ؛ دفاعًا عن الأقصى حتى يحين ميعاد تحريره كما ذكر القرأن فقال تعالى “وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا (4) فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا (5) ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا (6) إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا”
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات2024.04.19الفتور عن الطاعة بعد رمضان
- مقالات2024.04.15استمرار القيام بعد رمضان
- مقالات2024.04.07شياطين الإنس
- مقالات2024.03.24وأنا مالي