لقد كان فتح القسطنطينية حلمًا يراوض جميع المسلمين؛ تحقيقًا لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في غزوة الأحزاب. فعندما اشتد الكرب بالمسلمين في هذه الغزوة، إذا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – يطمئنهم أن الله سينصرهم وسيصل ملكهم إلى القسطنطينية، فقال صلى الله عليه وسلم “لنفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها”؛ لذلك تعددت محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية إلى أن وصلت إلى أكثر من “عشرين” محاولة منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان إلى عهد السلطان محمد الفاتح الذي تمكن من فتحها بعد فشل دام لمئات السنين، فما هي أهمية فتح القسطنينية للمسلمين؟ وما هي محاولات المسلمين لفتحها؟ وما علاقة هذه المحاولات بفلسطين؟
إن فتح القسطنطينية له أهميات عديدة للمسلمين: الأهمية الأولى والقصوى هي تحقيق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، والأهمية الثانية هي تأمين سواحل مصر والشام، حيث يقوم حكام القسطنطينية بتغذية جيوش جزر البحر المتوسط الشرقي بالقوات والإمدادات؛ للهجوم على سواحل مصر والشام.
تعددت محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية إلى أن وصلت إلى أكثر من عشرين محاولة منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان إلى عهد السلطان محمد الفاتح الذي تمكن من فتحها بعد فشل دام لمئات السنين، فكانت المحاولة الأولى لفتحها عام 49 هجريًا / 668 ميلاديًا عندما أرسل الخليفة عثمان بن عفان – رضيّ الله عنه – حملة استطلاعية برية وبحرية؛ لدراسة الطرق المؤدية للقسطنطينية، وفي العام التالي أرسل جيشًا لفتحها، وكان الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ملتحقًا بذلك الجيش. ووصل ذلك الجيش إلى القسطنطينية عن طريق السفن التي أبحرت من مضيق البسفور. وحاصر ذلك الجيش القسطنطينية ودارت المعركة، ولكن هُزم المسلمون واستُشهد – في تلك المعركة – الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ودُفن عند أسوار القسطنطينية، المحاولة الثانية لفتحها كانت في عهد معاوية بن أبي سفيان عندما أرسل أسطولًا بحريًا حاصر القسطنطينية لمدة ست سنوات من عام 54 هجريًا / 674 ميلاديًا إلى عام 60 هجريًا / 680 ميلاديًا، ولكن فشل هذا الأسطول في فتح القسطنطينية أيضًا وأمر معاوية بفك الحصار عندما أحس بدنو أجله، أما المحاولة الثالثة فكانت عام 98 هجريًا / 717 ميلاديًا في عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك عندما تحركت جيوش المسلمين لحصار القسطنطينية، ولكن تُوفيّ الخليفة سليمان أثناء الحصار وقام عمر بن عبد العزيز – الذي تولى الخلافة من بعده – بفك الحصار. والمحاولة الرابعة كانت في عهد الخليفة المهدي عندما أرسل ولي عهده هارون الرشيد عام 165 هجريًا / 781 ميلاديًا بجيش عدده أكثر من خمسة وتسعين ألف جندي؛ لحصار القسطنطينية فصالحه ملك الروم ووافق على دفع جزية مقدارها سبعون ألف دينار كل عام. ولم يكتف هارون الرشيد بمحاولة واحدة أثناء ولايته للعهد، بل قام بمحاولة أخرى أثناء خلافته عام 190 هجريًا ولكنها فشلت؛ وكانت هذه هي المحاولة الخامسة لفتح القسطنطينية.
وقد قامت فيما بعد العديد من الدويلات الإسلامية في آسيا الصغرى مثل دولة السلاجقة ودولة سلاجقة الروم، تلك الدول خاضت العديد من المعارك مع الروم وتمكنت من هزيمتها، ولكن قوتها لم تكن كافيةً؛ للسعي نحو فتح القسطنطينية. وفي مطلع القرن الثامن الهجري والرابع عشر الميلادي، سقطت دولة سلاجقة الروم وقامت الدولة العثمانية التي جددت المحاولات لفتح القسطنطينية مرة أخرى. فكانت المحاولة السادسة لفتح القسطنطينية عام 1402 ميلاديًا في عهد السلطان بايزيد الأول الذي تمكن من السيطرة على بحر مرمرة ومضيق الدردنيل، ليس هذا فحسب، بل تمكن من قطع الإمدادات عن القسطنطينية، وطالب الإمبراطور البيزنطي بتسليم المدينة، لكن الإمبراطور البيزنطي رفض وظل حبيسًا داخل المدينة؛ منتظرًا المساعدات من الدول الأوروبية، وقد أوشكت ساعة البشارة التي انتظرها المسلمون طويلًا أن تأتي، ولكن الرياح دائمًا تأتي بما لا تشتهي السفن، فقد هاجم المغول بقيادة تيمورلنك الأراضي العثمانية وعاثوا فيها فسادًا؛ فاضطر بايزيد لفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول، وبعد التمكن من القضاء على المغول، استقرت الأوضاع للدولة العثمانية، وتُوفيّ السلطان بايزيد الأول وتولى السلطان مراد الثاني الذي حاول للمرة السابعة فتح القسطنطينة عام 1422 ميلاديًا، ولكن حدثت ثورة في الولايات البلقائية أرغمته على فك الحصار، واتفق مع الإمبراطور يوحنا الثامن على أن يتركه يحكم القسطنطينية مقابل دفع الجزية للمسلمين، ولم يحدث أي جديد في عهد الإمبراطور قسطنطين الذي عاهده السلطان مراد الثاني على أن يتركه يحكم القسطنطينية مقابل دفع الجزية للمسلمين.
تُوفيّ السلطان مراد الثاني وتولى ابنه محمد الثاني عام 1451، محمد الثاني أو الفاتح هو خير الأمراء، وهو الأمير الذي تحدث عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه سيتمكن من فتح القسطنطينية. وبالفعل تمكن السلطان محمد الفاتح من فتح القسطنطينية عام 857 هجريًا / 1453 ميلاديًا، كان لنجاح محمد الفاتح في فتح القسطنطينية سببان: الأول هو اختيار الله له ليكون خير الأمراء، والثاني هو شدة إيمانه بفتحها، فكان الفاتح لديه هاجس فتح القسطنطينية حتى أنه كان يمضي ساعات طويلة – منذ أول يوم اعتلى فيه عرش السلطنة – في دراسة خريطة القسطنطينة وتحديد نقاط قوتها ونقاط ضعفها؛ لوضع خطته العسكرية للفتح، ليس هذا فحسب، بل كان الفاتح لا يتحدث ولا يأذن لأحد من قادته بالحديث إلا عن هذا الأمر. ووصل الأمر إلى أنه كان يأمر الجنود والناس أن يتحدثوا فقط عن هذا الأمر، وقد كان يخرج في الليل مع بعض خاصته؛ ليرى مدى طاعة الناس والجنود له. وكان الفاتح لا يستطيع النوم من كثرة تفكيره بهذا الأمر، وكان دائمًا يجتمع بقادته؛ ليحثهم على الفتح وليعرض عليهم خططه وأفكاره التي أدهشتهم جميعًا، وأيضًا كان الفاتح يحفظ كل محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية عن ظهر قلب، وكان دائمًا يناقشها مع قادته من دون كلل أو ملل؛ كي يستطيع وضع الخطة المناسبة للفتح.
إن محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية لها علاقة وطيدة بما يحدث في فلسطين الآن، فلا يخفى على الكفيف والأصم والأبكم ما يحدث في فلسطين من مجازر يرتكبها الاحتلال الصهيوني للأطفال والعجائز والنساء والعُزَّل والمدنيين، ولكن عندما نرى إصرار ومصابرة ومثابرة الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية على البقاء في أرضهم و الدفاع عنها والاستشهاد من أجلها وسماع صيحات “الله أكبر” كلما ازداد عدد الشهداء، يجب علينا أن نعلم أن هذا شعب عظيم يعلم عظمة أرضه وعظمة تاريخ الأمة التي ينتمي إليها، فهو لا يدافع عن أرضه فقط، بل يدافع عن تاريخ الأمة الإسلامية كلها الذي يسعى الأعداء لمحوه بشتى الطرق.
وختامًا، كل ما قيل في الفقرات السابقة يعني أن العلاقة بين محاولات المسلمين لفتح القسطنطينية وما يحدث الآن في فلسطين هي الإيمان بالنصر. فنحن نعلم جميعًا أن شعار رجال الأقصى هو “النصر أو الشهادة” مصداقًا لقوله تعالى “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” وقوله أيضًا “فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ”، وسيظل الفلسطينيون يسطَّرون الملاحم ضد العدو الصهيوني حتى يحين ميعاد تحرير الأقصى يوم القيامة كما سجله القرأن، فقال تعالى “وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا (4) فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا (5) ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا (6) إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا”.
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات2024.04.19الفتور عن الطاعة بعد رمضان
- مقالات2024.04.15استمرار القيام بعد رمضان
- مقالات2024.04.07شياطين الإنس
- مقالات2024.03.24وأنا مالي