لطالما عرفوا الناس القصة المعتادة لألمانيا النازية التي أبدت اليهود والتي أصبحت بذلك الدولة الوحيدة المستحقة للانقسام والسحق لأنها طبعًا تخطت الخط الأحمر الخاص بفك الهيمنة الأوروبية والأمريكية على العالم .
غير ذلك، فالكثير لا يعرف ولا يكترث بالطبع لقصة النازية مع الدين التي تبدل ليكون مساحة خصبة لأفكار محرفة تحولت بعدها لأرض تتشرب شعارات القومية وحماس العنف وتقبل الإبادة الجماعية لنفس الناس في رومانيا وبولندا .
ولكارل شميت وايريك فورم آراء في ذلك تستند لشهادات حية سواء بالمشاركة والدعم أو حتى بالدراسة الصامتة التي اكتفت بالتشهير النازية وفضح أكاذيبها وعوراتها للغير حذرًا منها أو من محاولة تكرارها .
فيؤكد كارل شميت في مجلدين مشهورين له وهما مذكراته المعنونة تحت عنوان الإفلات من العقاب أنه قبل تولية حكومة فايمار الحكم كان الألمان شعب طبيعي يتمتع بالقدر الكافي من المشاعر والقيم لإكمال الحياة بالقدر المعتدل الذي لا يخل لأي شيء فضلًا عن رفضهم لمنظومة النازية الت غي تحيل العنف لرغبة محببة وملحة التحقق .
فتلك الرغبة المتحولة تطرح أسئلة متكررة حول ماهية عمق وتطور الفكر الذي اختمر في عقول وقلوب الألمان للتسهيل عليهم القضاء على أي كان من الشعوب أو حتى جيرانهم اليهود حتى وإن كانوا يتمتعون بالقيم اللازمة لردع ذلك .
وحتى تتضح الصورة يكفينا قراءة في معنى من معاني المسيحية التي صكها هتلر نفسه بعد قضائه على رجال الدين إما بالنفي أو القتل أو التعذيب حتى بلغ بالناقد الحداثي الشهير مينوتيربراك وصف حركة هتلر تلك باختراع مسيحية جديدة في كتابه المسيحيون القدماء والمسيحيون الجدد.
لجأ ببساطة شديدة للتفريق وإعادة تأويل النصوص الإنجيلية لبسط قاعدة من السلبية وزعزعة الاستقرار النفسي ونزع هيبة الدين تشكيلًا له كما يريد ويحب وحتى إذ ما اعترض أحدهم بحق قتله أو أكد له أن هذا من الدين بالضرورة .
وأتى دور التسمية لتلك الحركة مهمًا للغاية لإعطاء هذا الإحساس بالقديسة ومخادعة الذات حتى تنزع منها جميع المعاني القيمية كما يشير ذلك الصحفين ألكسندر كوكبيرن وجيفري كليري في كتابهما التحالف الأسود فأسمها هتلر المسيحية الإيجابية حتى تعطي الإيحاء النفسي المناسب للتفاؤل والأمل .
بين نزع المعاني الشرعية وإلغاء القيم الروحية….أين المفر !!
في لقاء شهير، يخبرنا الشيخ الأسير فك الله كربه عبد العزيز الطريفي أن فرص التأويل غرضها الأساسي نزع المعاني الشرعية من الحياة اليومية للمسلم مثل الحرام والزور والربا وغيره من النماذج المعنية بالتنظيم والاستقرار والسير على خطى واضحة في الحياة.
والحقيقة أن تلك المعاني على المستوى الفلسفي والعلمي ترسخ لشرعية القانون فضلًا عن منح القانون الداخلي الفيصل لتحديد ما يراه صوابًا وخطأ وتطبيق ما يراه مناسبًا من عقوبات أو مكافآت من تأنيب أو إحساس بالذنب أو رضا وقناعة أنك قمت بالمطلوب .
في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، يربط بيجوفيتش بين القانون والمعنى الشرعي له وتحديدًا الضميري الذي يغني عن أي قانون حقيقي في التطبيق أو حتى التنظير فلا قانون بغاية ألوهية تحدد إطاره وصلاحياته .
فالمفر بالاعتبارات السابقة هو الالتزام بالقيم الشرعية وعدم فهم القيم على إنها للتجحيم أو الردع فقط، فكما يقول محمد حميد الله القانون أساس خلقي للبناء .
وإذ نظر لما هو خارج المنظومة الإسلامية سنجد أن كانط وهيجل قد حددوا إطار عملي للبحث لا عن الله عز وجل بل أيضًا لتطبيق تعاليمه الأخلاقية ولعل ما نقله تشازلز تايلور عن هيجل تحديدًا بأن المعنى الخلقي سعي حثيث من ضمن الفطر اللازمة .
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات29 مايو، 2024كلا لن تفعلها أبدًا :هيئة الرد المصري على مقتل الشهيدين عبد الله رمضان وإسلام عبد الرازق
- مقالات20 مايو، 2024التطبيع العنيف مع التنوير ….عندما تحولت نصيحة الشيخ عبد العزيز الطريفي لحقيقة واقعة في ألمانيا وبولندا
- مقالات19 مايو، 2024تنوير التقويض .. جذور فكرة المخطط لتغير المفاهيم الشرعية والقيمية عبر مركز تكوين الفكر العربي
- مقالات16 مايو، 2024مركز تكوين للملحدين… إثارة الجدل لتكوين عقائد جديدة وحداثية(١)