هل سمعتم مرة عن حاكم مظلوم؟ هل ذكر الناس أو المؤرخون أن فلانًا حاكم مظلوم؟ دائمًا يردد الناس والعلماء “فلان حاكم ظالم” ولكن الآن سنتحدث عن حاكم مظلوم قِيل عنه الكثير من الأكاذيب والادعاءات وهو بريء منها.
والعجيب أن هذه الادعاءات لم يقلها أعداؤه أو بنو عصره، بل قالها أحفاده في العصر الحديث أي بعد انتهاء الدولة الإسلامية.
فمن هو هذا الحاكم؟ وما هي الأكاذيب التي قيلت عنه؟ وما الإنجازات التي حدثت في عصره؟
هذا الحاكم هو أبو جعفر هارون بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور ابن محمد ابن علي ابن عبد الله ابن عباس الهاشمي القرشي المعروف “بهارون الرشيد”، هو الخليفة العباسي الخامس الذي وُلد ببلدة “الرِّيِّ” بطبرستان في آخر ذي الحجة عام 145 هجريًا، بويع بالخلافة في يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول عام 170 هجريًا في صبيحة الليلة التي مات فيها أخوه الهادي وتُوفي عام 193 هجريًا.
لقد قيلت الكثير من الأكاذيب والادعاءات عن هارون الرشيد وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام والعجيب أن هذه الادعاءات لم يقلها أعداؤه أو بنو عصره، بل قالها أحفاده في العصر الحديث أي بعد انتهاء الدولة الإسلامية.
فقيل عنه أنه شهوانيًا يحب النساء والجواري ويميل لهن. بالفعل، كان للرشيد نحو ألفي جارية من الروميات، والسنديات، والهنديات، والفارسيات، والبربريات وقيل عنه أيضًا أنه مستبد؛ بسبب ما حدث في نكبة البرامكة، أما عن كثرة جواريه فهو لم يفعل شيئًا محرمًا، حيث أن هذه كانت سمة العصر قبل إلغاء بيع الجواري في العصر الحديث كما أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز “فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ”. إضافة إلى أن هذا لم يكن شغله الشاغل ولم يمنعه من إحداث إنجازات في عصره، حيث كان عصر الرشيد أزهى عصور الحضارة الإسلامية.
تعددت إنجازات الرشيد في جميع المجالات: الزراعة، والصناعة، والتجارة، والجيش، والقضاء، والنظام الاجتماعي، والعلوم، والترجمة، أما عن
الزراعة، فقد ازدهرت في عصر الرشيد خاصة في منطقة “سواد العراق” وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات، حيث أمر بحفر العديد من الترع والقنوات التي ساهمت بشكلٍ كبير في ازدهار الزراعة، وأما عن الصناعة، فقد ازدهرت العديد من الصناعات مثل الصابون والزجاج في بغداد وسامرا، والورق في مصر وسمرقند وبغداد، والتطريز والحرير والأطلس والأنسجة الحريرية والسجاجية في بغداد والكوفة.
كما اشتهرت صناعة العباءات النفيسة من حرير الخز وصناعة المصابيح البلورية وأما عن التجارة، فقد توزعت بين المسلمين والمسيحين واليهود؛ مما أدى إلى كثرة الأسواق واتساعها حتى وصلت إلى الصين وكانت البضائع التي يتاجرون بها هي الحرير، والأحجار الكريمة، والأقمشة المزخرفة، والزجاج الملون والمفاجأة الكبيرة التي لو حدثت – في عهد الرشيد – لغيرت مسار الحضارة الإسلامية كلها.
تلك المفاجأة هي إثبات تساوي مياه البحرين في عهد الرشيد والاستعداد لحفر قناة السويس قبل دليسبس بألف عام، لكنها لم تحدث، السبب في ذلك هو أن يحيا البرمكي حذَّر هارون الرشيد أن حفر هذه القناة يسهل عبور جيوش الروم إلى الجزيرة العربية؛ مما أدى إلى تراجع الرشيد عن هذه الفكرة. كل ذلك يدل على الخير والثراء التي تمتعت به الدولة الإسلامية في عهد الرشيد، فقد وصل دخل الدولة الإسلامية في اليوم الواحد إلى 6974 دينارًا.
وقد كان هذا الدخل موزعًا بين الصدقة، والزكاة، والجزية، والخراج، والمكوس، وأعشار السفن، وأخماس المعادن، والمراصد، وغلات ضرب النقود، وضرائب الصناعة.
كما يدل أيضًا على قيمة الدينار الإسلامي في عهد الرشيد، فقد قال الاقتصاديون عن عصر الرشيد ” إنَّ الدينار والدرهم ليس لهما قيمة ذاتية، وإن قيمتهما بقدرتهما الشرائية، وكانت قيمتهما في عهد الرشيد كبيرة لا تقاس بما نحن عليه اليوم؛ فقد عُثِرت على قائمة بتثمين بعض الأشياء فيها أن الكبش كان يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلًا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم.
وكان الرجل يعمل في سور بغداد كل يوم بخمس حبات، وكان ينادي على لحم البقر في جبانة كندي تسعون رطلًا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلًا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم”.
وأما عن الجيش، فقد ازدهر بناء الحصون وتأليف الكتب في الهندسة الحربية مثل التعبئة وطرق الاستيلاء على الحصون، وتشييد القلاع والفروسية والحصار، صفات الخيول وأنواع الخيالة.
إضافةً إلى وجود ديوان العرض ملحقًا بديوان الحرب، وكانت وظيفته استعراض الجند ومعرفة كفايتهم وكان دائمًا ينظر هارون الرشيد إلى السحاب ويقول لها “أمطري حيثما شئتي فسوف يأتيني خراجك”؛ دليلًا على اتساع الدولة الإسلامية في عهده.
وأما عن القضاء، فلم يحدث فيه تطور مختلف عمّا سبقوا الرشيد إلا شيئًا واحدًا وهو ديوان المظالم. ذلك الديوان كان أعلى الدواوين القضائية؛ لأنه كان ينظر في القضايا المقدمة من الرعية ضد الملوك، أو الخلفاء، أو الأمراء، أو الولاة على العهد، أو أولاد الخلفاء وأما عن النظام الاجتماعي فأهم ما حدث فيه من تطوير هو حرية الأديان فقد كان لأهل الذمة الحرية في المجادلة والمناقشة والأبحاث الدينية، كما كان جبريل ابن بختيشوع من أكبر الموظفين في الدولة الإسلامية.
إضافةً إلى ترجمة التوراة والإنجيل ترجمات عديدة في عهد الرشيد وهو الشيء الذي نفتقده في عصرنا، حيث زاد الإيقاع بين المسلمين والمسيحين في هذا العصر.
فالدول الغربية تضطهد المسلمين وتعذبهم كل ثانية من ناحية، ومن ناحية أخرى تُشكّل جماعات إرهابية لقتل المسيحين حتى تسيء إلى الإسلام.
وبالحديث عن نكبة البرامكة، يجب أن نذكر أن البرامكة كانوا الرجال المقربين لهارون الرشيد، وهم الأساس الذي بنى عليه دولته وأشهر الرجال البرامكة هو يحيا البرمكي الذي أسند إليه الرشيد الوزراة وقد كان هذا الإسناد إسناد تفويض أي أن البرمكي كان يستطيع أن يفعل ما يشاء دون الرجوع إلى الخليفة، كما كان يستطيع أن يعزل من يشاء دون الرجوع إلى الخليفة.
كل هذه الامتيازات أدت إلى غيرة الفضل ابن الربيع منهم وكان يتمنى زوال نعمتهم؛ لأنه لم يحصل على هذه الامتيازات مثلهم. ففي البداية، دسَّ إلى الرشيد أن البرامكة يعملون على الوصول إلى الخلافة ثم قال عنهم أنهم ملاحدة وثنيون وبعد ذلك قال عنهم أنهم يؤيدون العلويين سرًا ويودون نقل الخلافة إليهم.
وقد ساعده على ذلك السيدة زبيدة زوجة الرشيد كل هذه العوامل أدت إلى الإيقاع بين الرشيد والبرامكة، وأدت إلى انهيار دولة الرشيد في النهاية.
وهذه الأحداث تنفي الإدعاء الثاني الذي قيل عنه أنه كان حاكمًا ظالمًا مستبدًا.
وختامًا على الرغم من الإنجازات التي عُرضت في هذا المقال، فإنه لم تُذكر جميع الإنجازات التي قام بها الرشيد مثل تقدم العلوم والترجمة إضافة إلى قصته الشهيرة مع شارلمان وهنا يجب أن نطرح سؤلًا، هل لازلت تؤمن بهذه الإدعاءات والأكاذيب التي قيلت عن الرشيد أم أنه قد استقام فكرك بعد معرفة الحقيقة؟
عن الكاتب
موضوعات الكاتب
- مقالات2024.04.19الفتور عن الطاعة بعد رمضان
- مقالات2024.04.15استمرار القيام بعد رمضان
- مقالات2024.04.07شياطين الإنس
- مقالات2024.03.24وأنا مالي